نقش على شاهدات المقابر وخطّ لافتات في مدن…فنان الكاريكاتير السوري رائد خليل: بدأت حياتي بفقر وقسوة وحرمان

179

نقش على شاهدات المقابر وخطّ لافتات في مدن…
فنان الكاريكاتير السوري رائد خليل: بدأت حياتي بفقر وقسوة وحرمان

 

ما إن يسمع أن شخصاً توفي في بلدته حتى تنفرج أساريره ذلك أنه سينقش شاهدة قبر جديد ويقبض خمس عشرة ليرة سورية؛ إنها المفارقة إذاً وسخرية الأقدار أن يكون الموت منقذاً لرائد خليل (يافعاً) من ضيق ذات اليد..

وهو الذي شب على انفصال والديه وكبر مبكراً في حمل مسؤولية وعاش شظف عيش وإجحاف سيلاحقه في تعليمه ويقطع عليه الطريق لتكميل تعليمه العالي لكن رائد خليل سيجد طرقاً للعيش وصقل موهبته الفنية من ناقش على شواهد المقابر إلى خطاط في مدينة حلب ليحصد نتائج معقولة لكنها لا ترضي طموح الشاب في أحلامه الكبيرة ولا يقف عند القبور واللافتات وهو صاحب الموهبة الكبيرة التي بدأت الصحف تنشر رسوماته الكاريكاتيرية.
رائد خليل الفنان ورسام الكاريكاتير السوري الذي بات اسماً كبيراً في الفن وعلى مستوى عالمي يتذكر البدايات بأسى حيناً وبفرح حيناً آخر ودائماً في روح مغلفة بالتهكم والسخرية فمن لب معاناة يخلق ابتسامة في الاشتغال على المفارقة والدعابة في وجهها المر على مختلف ميادين الحياة.

نافذة.. تعويذة.. وورقة توت
حول «قفوا.. كي أراني» النصوص الشعرية التي صدرت له مؤخراً.. يقول رائد خليل:
أن يعيش الإنسان الشعر أفضل من أن يكتبه… ولكن للكلمة غواية لا توصف… وانعتاق وتجليات موصوفة… فقد اختزلتُ في مجموعة « قفوا كي أراني » حكايات ممسوسة بألوان قوس قزح.. إضافة إلى حالات بمقامات مقروءة على ضوء الحكاية.. ولم أغفل اشتباك الأضداد.. التي تتصارع في فضاء التساؤل المشروع… وتركت للومضة لعبة التداخل تشكيلاً كلامياً يفترض الحرية سبيلاً….. هذا هو سر علاقتي بالكلمة… سرٌ في بئر عميقة الدلالات…
الشعر.. حلم مستجاب.. وذاكرة تمخر عباب التمني… ولهذا.. فرشتُ لها مسرحاً مضمّخاً بألف تعويذة لأبعد عني مشقة الحياة.. ويستريح القلم…!
إذاً، – يعقب خليل- هي حالات وجدانية مخصّبة واختزال لوقائع ملموسة، اعتمدت فيها الومضة وسيلة ونافذة لأطلّ منها على صباحات متوالدة، ومخاطبة تلك الأنثى التي أتجاذب معها أطراف الضلوع… وإليها قدّمتُ الكثير من التأملات بتلاوين مختلفة… ومنها:
عادة.. لا أفتح بابك..
كي لا تغلقيني..!
***
اختصري…. حقائبك.. وغادريني.. فقد فاض
الفراغ…. غادريني..
قبل أن ينبت فيَّ… «ظلّ الرجوع»
غادريني..
***
لم يبقَ من خريفك

سوى ورقة توت واحدة
ألم أقل لك إني
«دائم الخضرة»..
***
كم صلاة استسقاء

أحتاج كي… أروي جفاف حلق القصيدة
وظمأ روحي..؟
***
أما عن مدى تعلق نصوص مجموعته الشعرية مع عالمه كفنان كاريكاتير فلا يرى خليل العضو في لجان تحكيم مسابقات دولية انفصالاً بالمفهوم العام في كل من الشعر والكاريكاتير وخاصة أن الومضة قضية تلاحق الرسام والشاعر.. ومن يجمع بينهما يكون قد حقق معادلة ليست سهلة.. وهنا، مربط الفرس.

سوداوية.. إبر.. وذخيرة
اللافت في نصوص خليل التي جاءت أشبه باللوحات- المكتملة أو الناقصة- إلى جانب المفارقة أن مفردات محددة تتكرر في كثير من نصوص بينها «الصمت.. الظل.. الصدى..» وأسأل هنا خليل: متى ينهمر الظل… ومتى يكون صدى الصمت مسموعاً.. ومن يسمع؟ فيشير إلى أن تكرار المفردات هو ضمن التبويب فقط، وهذا التكرار-برأيه- يصبّ في مفارقات حسية، روحانية، سوريالية، وانزياح صور لخلق ثوب جديد ضمن أطر ومحددات لا تخلو من التجريب لفتح الأبواب المغلقة في الفضاء الثقافي المتجدد دون قطع جذور المألوف… والمسألة– يعقب خليل- ليست سهلة كما يتصور البعض لجهة اختزال قصة بكلمات قليلة في تشكيل يعيد ألق النص.
في رسوماته الكاريكاتورية.. فإن رائد خليل لا يعنيه كثيراً التوجه للسياسيين أو المثقفين.. أو لصناع القرار، ذلك أنه يؤكد مراراً أن انحيازه دائماً للطبقة الفقيرة وأنه يتوجه للعموم، وهذا ما يلاحظ جلياً في رسوماته التي وصّفها البعض بالسوداوية، وهو لا يخرج عن هذا السياق.. على الرغم من وجود الكثير من الحالات الأخرى التي تناولها عبر سنوات، إلا أن هاجسه الوحيد- كما يقول -هو التعبير عن آمال وآلام الناس أينما كانوا… لأن حالة الفقر مثلاً لا ترتبط بجغرافية محددة.. وإنما هي حالة عامة وأزلية ولا يخلو الموضوع بالنسبة له من إبر انتقاد موجهة للعاطلين عن حب الوطن.. وهنا يتوقف خليل عند قصة تقول: إن أحد الكتاب السياسيين المتابعين علّق على قضية الكاريكاتور السياسي وقدرة فنانيه على التقاط المفارقة السياسية الناجحة، مؤكداً أن الريشة لا تكفي لإنتاج كاريكاتور ناجح دون إلمام الفنان بالسياسة وروحها والوقائع الاجتماعية ومحاورها وتفصيلاتها التي تمد الفنان بالذخيرة اللازمة لإنتاج عمل كاريكاتوري.

غش.. ومفارقة
ما يهمّ خليل- الفائز بعشرات الجوائز الدولية- في علاقته مع المتلقي هو خلق حالة من التعايش الجمالي مع المتلقي والدخول في سراديب حياته بما يفعّل الحالة الروحانية والارتباط الذهني مع مفردات العمل الذي هو جزء منه… وعندما يركز خليل على هذه المسألة فإنه يدرك أن الوصول إلى العامة يصير أسهل… وهنا يضرب مثالاً: الممثل الساخر «وودي آلن» قال معلقاًً على دراسته الجامعية: «لقد طُردتُ من الجامعة في السنة الدراسية الأولى لأنني لجأت إلى الغش في امتحان مادة الفلسفة الميتافيزيقية، إذ أمعنت النظر في داخل روح الطالب الجالس إلى جانبي». وهذه مفارقة يراها خليل جميلة تقودنا للدخول إلى عوالم الآخر.

خطوط.. رموز.. وتجاهل
في كتاباته يلجأ خليل أحياناً إلى اللعب على المفردات والأضداد، وتحوير الكلمات بما يناسب المعطى الكاريكاتوري في الأساليب والتقنيات والأفكار.. يَدخُل في روح العمل، ويركّز الذهن على الجزء الهام منه وخلق حالة من الاندماج معه من تحليل الخطوط وفك رموزها إلى الفكرة التي يريد تقديمها للناس حتى يصل الكاريكاتور إليهم بسهولة وبيسر على اختلاف شرائحهم الاجتماعية. ومهما كان الكاريكاتور قريباً من الواقع ومنصهراً في جزئياته وتفاصيله، فإنه– برأي خليل- يلقَ في بعض الأحيان تجاهلاً وعدم قبول، فالرسم الذي قد يلاقي النجاح في سورية ويثير الضحك فيها قد لا يجد الإقبال ذاته في بلد آخر، وهذا أمر بديهي.

ملمّات.. ومدى
وفي عالم تسوده المآسي والملمّات… والتفرقة.. فإن خليل يرى أن الفن يؤدي دوراً مهماً في تقريب وجهات النظر وتغيير الصورة النمطية المرسومة سلفاً عن مجتمعاتنا.. «مهمتنا الاستمرار وعيوننا على المدى».

فلسفة.. تحليل.. رؤية
خليل لا يلتفت إلى الحظ أو المصادفة سواء كان في حياته أو عمله ولا يبحث عنها.. ذلك أن لديه نظرة في الحياة يفلسف الأمور دون تعقيدات.. فالرؤية- كما يقول- لا تعتمد الأساس المعرفي في مسيرة الحياة فقط، ولعلّ ما يعززها حقيقة هو الممارسة العقلية العملية المستندة إلى قناعات تتجسّد في العمل والتصرفات، مشيراً هنا إلى أحد الفلاسفة وهو من زعماء المذهب الحواسي الذي قال: «هناك فرق بين الرؤية والنظر»، معقباً على ذلك بالإشارة إلى أن الأعمى ينظر ولكنه لا يرى، وكلما كثَر ما في العقل، كثُرت حاجة الإنسان إلى التحليل والتركيب.
إنّ نظرتنا إلى الأمور من دون رؤية حقيقية يقودنا- برأي خليل- إلى حالة التردّي التي نشهدها على الصعد كافة.

قلق.. فراغ.. وطين الخزف
القلق في قاموس رائد خليل هو حالة طبيعية مفروضة على مناخ الفنان أو الكاتب أو الشاعر وكما قال المتنبي: «على قلق كأن الريح تحتي» مشيراً إلى أن هناك وجعاً يومياً وخوفاً حقيقياً من القادم رغم كل ما يُكتب عن التفاؤل، إلا أن قلق الفنان برأيه يكون مختلفاً لأن أثر أي منعطف في حياته يكون وقعه مضاعفاً.
أما فيما يتعلق بالنجاح والشهرة وما يولد ذلك أحياناً من أشكال عداوات وهل يدفع خليل ضريبة ما- بشكل أو بآخر من باب كونه فناناً ناجحاً- فإنه يقارب الموضوع على الشكل التالي: يبدو أن هناك محاولة لقتل الطريق وقارعته، لا بل محاولة لخلق فراغ في محيط تركه «رودان» بحركة رمزية تكوينية متفاعلة مع أبعد نقطة في فضاءات الرؤية. لكنهم لم يتركوا المفكر الذي ابتدعه قلب النحات قبل يديه، إذ فتحوا شقاً في جبينه باتجاه العنق، وجعلوا الجمجمة معلقة كأنها قبعة غريبة الشكل، لا يربطها بالعنق سوى شعيرات برونزية.
نعم.. حاول اللصوص تقطيع تمثال المفكر وبيعه، وهم لا يدرون أنه شامخ رغم مرور أكثر من مئة عام على ولادته الرمزية. حاولوا قتل النشوة التي اختطفت «رودان» الذي قال إنه شاهد طين الخزف للمرة الأولى، فخيّل له أنه يصعد السماء. فراح يصنع قطعاً منفصلة، أذرعاً ورؤوساً وأقداماً، ثم يصيغ الشكل كاملاً. فاكتشف وقتئذٍ وحدة الجسد. صحيح أن المثل يقول إنه كلما ارتفع الإنسان تكاثفت حوله الغيوم والمحن، وصحيح أنك لن تستطيع أن تمنع طيور الهم أن تحلق فوق رأسك، ولكنك تستطيع أن تمنعها من أن تعشش فيه.
وهنا، يتساءل رائد خليل: لماذا قتلتم «رودان» قبل تمثاله؟!

*- أجرى الحوار: علي الحسن- صحيفة الوطن السورية

>>>


Director| Raed Khalil
موقع الكاريكاتور السوري الدولي
رسام الكاريكاتور السوري رائد خليل
| جميع الحقوق محفوظة|

 

More..
Latest news