حوار مع رسام الكاريكاتير السوري نضال خليل

204

حوار مع رسام الكاريكاتير السوري نضال خليل

الخط الذي يتعارض مع مصلحة بلدي هو خطي الأحمر..
ما حصل مع “الدومري” لم يحصل مع أية مطبوعة أخرى؟!
لم نعد في عصر النجومية والتفرد

الكاريكاتير فن السهل الممتنع، وخلال عمره الطويل الممتد إلى حوالي خمسة آلاف عام احتل هذا الفن مساحة هامة ومكانة يستحقها لقدرته على اختزال كم هائل من المشاعر والمواقف في مشهد واحد يعتمد التكثيف البصري والمعالجة الغرافيكية أدوات لاستنفار مخيلة القارئ وإشراكه في العمل الإبداعي.
ذلك الفن الذي يتقن المناورة والوخز المؤلم الشافي، يتجاوز بمهارة لا تضاهى عيون الرقيب وأدواته ليقدم لغة يفهمها الجميع لأنها تداعب هواجسهم وهمومهم وتترك لهم متسعا من الوقت ليضحكوا بمرارة ساخرين من أنفسهم من حياتهم من الطحالب النابتة في زوايا الحياة المعتمة.

الفنان نضال خليل القادم إلى مدينة الضجيج والعلاقات السريعة، من سهرات المتة وجلسات المساء أمام باب الدار إلى مطاعم الوجبات السريعة والمرحبا التي لا تجد وقتا لها إلا عبر الموبايل.
سأبدأ رواية البداية مع فن الكاريكاتير، حين بدأ الصبي اليافع بمراسلة مجلة الهدف برسومات هي بداية حلمه أن يرى خطوطه المشاكسة على صفحة مطبوعة، لكن المفاجأة كانت في إرسال المجلة رسالة إلى “الأستاذ” نضال تعرض عليه المجيء إلى مكتب المجلة في دمشق لمناقشة إمكانية العمل لدى المجلة، وكانت مهمة صعبة
أن يظهر هذا الولد النحيل في مكتب المجلة ويقنعهم بأنه هو الأستاذ نضال، هل نكمل أم نترك له الحديث عن بداية ورطته في هذا الفن الصعب؟!
— حديث البداية له بريق خاص عندما يستذكرها الإنسان، وها قد فتحنا لك بوابة الذاكرة فهات ما تبقى لك؟

– مازلت استذكر وقع تلك اللحظات وكأنها البارحة، فبعد استلامي رسالة المجلة التي تطلب مني الحضور إلى دمشق قدمت في اليوم التالي إلى دمشق مرتديا لباس الفتوة المدرسي الذي كان أنسب (طقم) أملكه لهذه المناسبة السعيدة متأبطا لوحاتي، ولا زالت صورة سكرتير التحرير واضحة المعالم حيث الدهشة التي ارتسمت على عينيه رغم اختفائها خلف نظارتيه السميكتين . . . . إلا انه قادني إلى مكتبه لأكتشف أن من ضيوفه الراحل الكبير بهجت عثمان(بهجتوس) وأحمد عز العرب . . . كان موقفا اكبر مني بكثير وأنا (أمثل) بين أيدي هؤلاء الفطاحل الكبار، كنت أراهم في التلفزيون وعلى صفحات المجلات أنا ابن الضيعة الصغيرة المجهولة، كان اكبر (مسؤول) قابلته حينذاك هو مدير المدرسة ومختار القرية .
لم تطل المقابلة كثيرا فبعد تفحص (أعمالي) نهض عثمان وصافحني بحرارة قائلا لسكرتير التحرير: (خود بالك منو كويس . . . ده حيبقى رسام كاريكاتير خطير جدا) ولا أزال أنتظر نبوءة هذا الفنان الكبير.
كانت هذه بداية رحلتي ثم بعد إن انتقلت إلى دمشق لمتابعة دراستي الجامعية بدأت رحلتي الحقيقية مع الصحافة والفقر والتعتير.
مثل انفجار وردة يتشظى عبيرها كله في لحظة ليملأ الفضاء لكن العبير ينساح ويتناثر في اتساع المدى أما هو فيبقى في المخيلة والعقل يحضر كلما حرضه خبر عن ظلم وعن (حيونة إنسان). . وكانبلاج ضوء ساطع على زوايا العفن في حياتنا لا يلبث أن ينسحب تاركا للمشاهد أن يستنفر أحاسيسه وذاكرته وذائقته في التقاط ما أضاءه هذا الومض العابر
– هل ما قلته تعريف لفن الكاريكاتير أم أن لديك المزيد؟
— ربما ما تقوله هو تعريف، لست ماهرا في وضع التعاريف والمصطلحات، أنا أرسمها فقط، لكن سأحاول.
الكاريكاتير اعتقد انه فن الابتسامة المرة . . . .انه نوع من الكوميديا السوداء كما يحلو للبعض تسميته، لأنه يختزل وعبر مجموعة من الخطوط المتباينة حالة ومجموعة حالات محولا إياها إلى شكل من النشاط الإنساني.
ترسم في الصحف والدوريات المحلية وفي مواضيع متنوعة، من انفلات غرائز القتل والتدمير والاحتلال لدى أباطرة الشر في (اللا نظام) العالمي الجديد إلى مباراة كرة قدم تقام ليلا على ضوء الشموع ، هل يأتيك موضوع اللوحة أم أنك تبحث باستمرار عن موضوع؟
— ربما كان قول الجاحظ أن الأفكار ملقاة على قارعة الطريق، هو المدخل الأنسب للجواب، الأفكار موجودة ولانهائية لكن عملية تلقفها وتجسيدها مرهونة بالوسيلة الأقرب والأجمل، الأكثر سرعة ورشاقة(القراءة،الاحتكاك بالناس، بالشارع، المشاهدات اليومية الزاخرة بالحياة) ثم تخزينها كذاكرة بصرية . . . .إلا أني بحكم عملي في عدة صحف ذات طبيعة مختلفة (سياسية، فنية، رياضية، اقتصادية) اضطر إلى التعامل مع المادة المكتوبة والتحقيق في تحديد الهاجس الأساسي للوحة والشكل العام لها.
– أين يحصل التلاقي بين الفكرة والريشة؟ وهل هناك فكرة استعصت على الريشة لديك مرة؟
— العلاقة بين الفكرة والريشة علاقة وجهي العملة الواحدة، فلا يمكن فصم عرى هذه العلاقة . إلا انه وبقدر ما تكون الريشة أكثر تمكنا من تحديد أبعاد الفكرة بشكل غرافيكي متوازن ومنسجم تكوينيا بقدر ما تكون ولادة الفكرة ككائن مرئي أقرب بعين القارئ والمتلقي .

– الصحافة الساخرة المسلحة بسلاحها الأساسي ـ الكاريكاتير ـ ظهرت ثم غابت، ما رأيك في تجربة (الدومري) تحديدا؟ وهل هذا الغياب للصحافة الساخرة دائم أم أن العودة ستكون هذه المرة بمشاريع صحفية أرقى وأنضج؟

– (الدومري) ظلمها الناس قبل الحكومة، وبحكم معايشتي لهذه التجربة من فترة المخاض فالجميع راهن وبنى أحلاما كبيرة على هذه المطبوعة، لم يدرك الكثيرون أن الصحافة ليست سلطة تنفيذية، وان هناك قانونا لمطبوعات بدا وكأنه فصّل تفصيلا للـدومري، ونتيجة بعض الأخطاء في البيت الداخلي للصحيفة مع بعض العوامل المحيطة التي فرضتها متغيرات وتوازنات مستجدة في الساحة السورية، كل هذه الأسباب سارعت في إسدال الستار على تلك التجربة الغنية والمتميزة من تاريخ الصحافة السورية، التجربة المتفردة شكلا ومضمونا. . .ورغم كل ما قيل وكتب في تجربة “الدومري” فالشارع السوري أحبها وتفاعل معها ولو لحين، وهذا الأمر لم يحصل مع أية مطبوعة أخرى على المدى المنظور على الأقل.
– في زمن حافل بالجوائز حتى لم يبق ثري وباحث عن تبييض أمواله إلا وأصدر جوائز للإبداع، في هذا الزمن تغيب عن الجوائز وتغيب هي عنك، ما هي حقيقة الأمر؟

— هذا السؤال من أكثر الأسئلة التي أسمعها من الأصدقاء والمهتمين. أحد القراء أرسل يعاتبني قائلا أنه حائز على سبع جوائز -عالمية- رغم أن أحدا لم يسمع به (والكلام له) فلماذا لا أشارك أنا بهذه المسابقات وهي أكثر من الهم على القلب؟؟! بل انه تبرع وأرسل لي عناوين مسابقات قال أنها عالمية وحثني على المشاركة. . . .
الأمر هنا يبدو مضحكا فعلا، فغالبية المسابقات هي للهواة، البعض القليل منها مسابقات حقيقية محترمة ومعروفة هوية الجهات التي تقف وراءها وتمولها وهذه قضية مهمة وخطيرة، وأعترف بأني مقصر في المشاركة بهذا النوع من المسابقات ربما لضغط العمل وأشياء أخرى، وبعد هذا اللقاء ربما سأتقدم إلى إحدى المسابقات المهمة.
– نلاحظ في أعمالك توجها نحو المشهدية والاهتمام بالتفاصيل الدقيقة ما يمكن اعتباره خروجا عن المألوف ممن سبقك من فناني الكاريكاتير، هل توافقني الرأي؟
— ما هو المألوف؟ أصبحنا في عصر كل شخص يعتبر نفسه مرجعية فيما تمرس به، أنا أحاول وفق منظومة المعارف التي تراكمت لدي الاجتهاد في بناء شيء يحدد هويتي الفنية، إضافة إلى أن عملي سابقا في مجال الرسوم المتحركة ورسوم الأطفال جعلني ميالا إلى الاهتمام بالتكنيك كثيرا لتبدو اللوحة اكثر تفاعلا مع القارئ

وأكثر إقناعا، ثم أني أتعامل مع شخوص ومفردات قابلة للتطويع، فلماذا لا أشكلها بطريقة أكثر توازنا لتعلق بذهن القارئ إلى أقصى حد ممكن، لتصبح لوحة كاريكاتير فنية، وربما هنا يظهر تميز الفنان وهويته الخاصة ـ بصمته، وهذا يقوي العمل الفني ليتكامل.بقدر ما تتضح أبعاد الشخوص وتفاصيلها و”اكسسواراتها” بقدر ما تقترب من إحساس المتلقي، فلا يكفي أن تكون اللوحة خطوطا خارجية هندسية وغير واضحة الأبعاد.
– الخطوط الحمر تترك بصمتها على كل عمل إبداعي، وتزداد في فن الكاريكاتير بسبب السخرية الضرورية فيه واقترابه من القضايا الحساسة والاستفزازية، أين أنت من هذه الخطوط؟
— وجودي كفرد في مجتمع مختلف الطبائع والأمزجة جعلني أتلاءم معه دون أن يستطيع التأثير على قدرتي في عبور جميع الخطوط على اختلاف ألوانها لكن بالمقابل عملت تربيتي الريفية ومعارفي المختلفة على التسلح وامتلاك وسائل رؤيا وحركة تجعلني أكثر إدراكا لخطواتي، وربما أعطاني هذا الأمر مهارة في المناورة ضمن الحيز الممنوح مهما كان ضيقا دون أن يعني ذلك التهور للظهور بمظهر البطل، فأنا لست دون كيشوت، باختصار طالما أني ابن هذا البلد أتنفس هواءه وأشرب من مائه وأحب ناسه فأي خط يتعارض مع مصلحته هو خط أحمر بالنسبة لي وماعدا ذلك كل الألوان مسموحة عندي.
أين موقع فن الكاريكاتور بين الفنون الأخرى قريبها وبعيدها؟
— ظل الكاريكاتور على اختلاف المراحل الزمنية ينحو باتجاه التناغم مع هموم المواطن ومشاكسة السلطات التي تقهر هذا المواطن على اختلافها، ولعل ثورة الاتصالات وانفتاح العالم على بعضه أتاح له مساحات إضافية للانتشار وأعطاه أبعادا أكثر اتساعا فاستطاع الإفلات من عين الرقيب ومقصه، إضافة إلى انه اخذ يهتم بالهم الإنساني أكثر فأكثر ليستطيع الوصول إلى هذه الدائرة التي تتسع باضطراد، ثم إن ظهور جيل جديد من رسامي الكاريكاتير قد كسر احتكار الأساتذة الكبار(مع الاعتراف بريادتهم وفضلهم) وخلق نوعا من المنافسة، إن عصر

النجومية والتفرد ربما خفّ بريقه وأصبحت العلاقات العامة تلعب دورا في تسويق هذا الفنان وذاك بغض النظر عن موهبته وقدراته.
– دخلت التقنيات الحديثة كل أوجه الحياة تقريبا حتى الكاريكاتور باعتباره جزءا من هذه الحياة، ما مدى الأثر الذي أحدثته في فنك؟
— برأيي أن التكنولوجيا الحديثة ـ والكومبيوتر بشكل أساسي ـ قد ساعدت الرسام كثيرا في اختصار الوقت والوصول إلى نتائج جيدة على الصعيد الطباعي تحديدا، فرسام الكاريكاتير ينفذ كافة مراحل العمل، لكن هناك أنظمة طباعة لونية وإلكترونية قد لا تستطيع التقنية اليدوية التوافق مها بمعنى الحصول على دقة وجودة اللون وهي موجودة ضمن برامج الكومبيوتر فلماذا لا نتعامل معها طالما إن عين الفنان ويداه تقومان بإعطاء الأوامر وتراقب النتائج، وبالمحصلة فإن الكومبيوتر هو عامل من عوامل تطور الكاريكاتير على الصعيد التقني .

– لكن العلاقة بين الورقة والريشة واليد التي تنقل نبضها إلى بياض الورق ألا تغيب مع دخول التقنية في الرسم؟ بمعنى بصمة الفنان التي يختصر بعض جوانبها خطه وتلوينه ؟
— لا، لا أرى ذلك، يبقى نبض الفنان ينتقل إلى اللوحة سواء رسمها ولونها بيده أم بالماوس، الجوهر هو في الفكرة التي اختمرت في ذهنه للتحول إلى خطوط على الورق والشاشة لا فرق.

– الإبداع لا يتجزأ،والرسم هو شكل لقصيدة ضلت طريقها فالتقطتها الريشة وطيف قصة لم تجد من يحكيها فارتكبها الرسام، ماذا عن علاقتك بالحرف مع الرسم وبدونه؟
— لكل مجال متعته ووقته، قد يحدث نوع من التعارض أحيانا عندما أكون بصدد كتابة يخبروني بضرورة إرسال كاريكاتير لأحد الصحف التي أعمل فيها فـتضيع الطاسة لكني لا ألبث أن أجدها وأضعها في مختبري مرة أخرى، وأعتقد بعد هذه التجربة المتواضعة إن اكتساب المعارف المهنية هي نوع من التكامل في شخصية الصحفي، (بعدين بدنا نعيش).

حسين خليفة-  “صوت الشعب” العدد 103

 2005


Director| Raed Khalil
موقع الكاريكاتور السوري الدولي
رسام الكاريكاتور السوري رائد خليل
| جميع الحقوق محفوظة|

 

 

 


More..
Latest news