الرسم التصويري .. والرسم الكاريكاتوري

161

الرسم التصويري .. والرسم الكاريكاتوري

 
منذ البدء كان الرسم:
كان شغف كل من مسك أداة للرسم منذ بدء التاريخ هو تصوير المحيط الطبيعي بأشكاله كافة، وتصوير الوجه الإنساني وإخراج نسبه وأبعاده بالطريقة الأمثل. فتطور الرؤية الفنية للشكل المرسوم في ذاك الوقت تبع التطور الذي حل بالإنسان، فقد تطور أسلوب تفكيره ، وتغيرت وسائل معيشته، وبدأت رؤيته للمحيط  تأخذ هيئة الحدث أو القصة.
 وفي يوم كانت لعين الإنسان وعياً كافياً ليعي عدم واقعية رسومه بقطعة فحم على جدار كهفه، فثارت وأخرجت من يده خطوطاً أنضج وألواناً أقوى.
في البدء كانت الكلمة، وفي البدء كان الرسم. فحاجة التواصل بين الإنسان والإنسان اضطرته لإخراج لغة يتفهمونها، فقد عبّر عن ذاته بالغناء والعزف والرسم، إضافة إلى تسجيل أحداث حياته ويومياته وحروبه وعشقه بالرسم.
 
الكاريكاتور وليد التصوير:
إذا تتبعنا فن الكاريكاتير ، سيعيدنا تطوره إلى بدايات تطور الإنسان الحضري، فالمعابد والقصور ومدافن الموتى كالاهرامات لا تزال تحكي روايات وأحداث عن طقوس دينية وحروب وغيرها. ولنأخذ مثلا الحروب، التي ما كانت لتنتهي حتى بدأ الفنانون برسم ملكهم مقاتلاً  الأعداء بطرق مختلفة ( مضحك ) أو بمشهد  يعبّر عن قوة قائدهم. من هنا اتخذ الكاريكاتور خطوطه الأساسية ووضعت له قواعد. ولنرَ اللوحة التالية من معبد فرعوني تعبر تماما عن أسلوب موحد  في الطرح.
والجدير بالذكر هنا هو أنهم رسموا رسوما ذات بعدين فقط، ولم يرسموا بعداً ثالثاً، ولم يعطوا أي عمق لرسومهم الجدارية، على الرغم من أنهم درسوا البعد الثالث ونجحوا في بناء تماثيل عظيمة تدل على دراية تامة بالأبعاد الثلاثية.

لم تكن رسومهم عبثية بل كانت منظمة ضمن فكرة وروح واحدة تأسر المشاهد وتجعله يضيع في التفاصيل. ولم يكن إبراز أبطال الرسوم واضحا تماما فكثيرا ما تضيع العين في تفاصيل كثيرة تهمل الفكرة الرئيسية وتغيب ضمن وحي عام.
إحدى النقاط المهمة أيضا أنهم سعوا باتجاه توظيف الرسوم، فأتت رسومهم على مواقف أكثر منها تصويرا شخصيا لحالة أحادية ضمن منظر واحد لا يحوي فكرة من وحي الحدث وإنما يحوي انطباعا من حيث الكلية، فرسمهم يتكامل ضمن فكرة أو حدث أكثر من تكامله ضمن روح.
يتضح هنا أن اللوحة الكاريكاتورية  لها عناصر عدة: الخطوط، الفكرة أو الحدث، وعدم وجود بعد ثالث، ولدت من ضرورة تصويرية.
ولم يكن هذا التطور تفردا للحضارة الفرعونية فقط، وإنما حدثا مميزا أغفلنا عن ذكر حضارات أخرى.

         
حداثة الكاريكاتور؟
أسلفنا أن ولادة الكاريكاتور كقواعد تزامنت مع الارتقاء الحضري للإنسان. ولكنه لم يتخذ شكله الحديث الحالي إلا ضمن حداثة لتلك القواعد وزيادة في تمييزه عن الرسم التصويري.
تناغمت فكرة الرسم الكاريكاتوري مع فكرة السخرية من الإنسان ومن طبائعه ومواقفه الحياتية، وارتبط الرسم الكاريكاتوري بعدة خطوط عريضة ليكون متميزا عن الرسم التصويري.
أولا ، لنتكلم عن تطور الرسم التصويري بسرعة، فقد نشأ مع بصيص التاريخ، وتطور ليصور الطبيعة والإنسان، وخرج عن المألوف أو الواقع حين صور ميثولوجيا وأساطير الاغريق والرومان، وعاد إلى كنف الطبيعة بعد أن كثرت تقنياته وتعاظم رساموه وتفاخر مقتنو لوحاته حتى بات الشغل الشاغل لفناني عصر النهضة  تصوير الدوق والأمير وصولاً إلى الموظف و الخادم .
وهنا ظهرت مدارس كثيرة بعضها اعتمد على إهمال الخلفية خلف الشخصية أو مجموعة الشخصيات المرسومة بلعبة من النور والظل حتى يركز الاهتمام على الشخصية، وبعضهم أعطى أهمية مبالغ فيها بكل تفاصيل اللوحة ليصور مشهدا حقيقيا. وكثرت تفاصيل الشخصيات ومحاولة إلصاق أي موقف معها ضمن اللوحة، فكان رسم منديل مع الشخصية المرسومة كفيل بإعطاء مشاعر أخرى عن هذه الشخصية. هذه المبالغات في الرسم التصويري سواء كان بإهمال الخلفية أم لا أو بكثرة التفاصيل عامة، خلقت تطورا حتميا لضرورة إيجاد موقف أو حدث يضبط الشخصيات في لوحة تصويرية. وبالطبع كان هناك رواد في التصوير مثلوا مواقف وأحداث ضمن لوحات بالغوا أيضا في تفاصيلها وكبر أحجامها.
والضرورة القصوى بلغت الذروة عندما أراد الرسامون آنذاك رسم موقف غاية في الإضحاك والسخرية، ولكن ذلك لم يكن ليحدث بسبب عدم رغبة المشاهد برؤية موقف ساخر وعدم رغبة الأشخاص المرسومين بالظهور بشكل مضحك. ويعود السبب في ذلك إلى الوضع الاجتماعي للناس وقتئذ، ومجموعة القيم والمثل التي تضبطها. فالغني لايقبل أن يرسم إلا بوضع يعطي الهيبة والوقار، وكذلك الفقير يتمنى أن يرسم بتلك الطريقة.
عوامل مساعدة كثيرة ساعدت بظهور أول رسم كاريكاتوري مؤرخ، مثل انتشار الصحف والمنشورات المطبوعة والإعلانات ولافتات المتاجر، وبشكل أكيد فان العامل الأساسي هو دخول البشرية بصورة عامة في بداية حياة مدنية معقدة بالشكل الذي يتطلب النقد والهجاء والسخرية.
في نهايات القرن الثامن عشر بزغ رسام كان له فضل كبير بوضع لمسات الكاريكاتور ضمن لوحاته، فرسم عدة لوحات بعضها موجود في المتحف الوطني البريطاني. وحتى أنه رسم نفسه بموقف هزلي ليبرهن قدرة الرسام التصويرية على إعطاء الهزل والسخرية في رسومه حتى اتجاه نفسه، قد يؤرخ الرسام البريطانيThomas Rowlandson بداية واضحة للكاريكاتور ضمن لوحات، كلوحته “ميناء بورتسماوث” ولوحته الشخصية بعنوان “الذواقة بغير ارتياح” المرسومة عام 1787. وهنا نميز بوضوح أسلوبا متطورا تماما عن التصوير الكلاسيكي.

أما أول تاريخ معروف لرسم كاريكاتوري منشور فهو عام 1770 للزوجين البريطانيين  Mary  و Matthew Darly اللذين امتلكا مطبعة، فرسما ونشرا سلسلة من الرسوم الكاريكاتورية في سلسلة كتب بعنوان Macaronis حملت رسوم لشخصية عبد أسود اسمه Mungo Macaroni من رواية مشهورة لأوبرا هزلية للكاتب  Julius Soubise، نشرت سلسلة الكتاب حتى عام 1773.
وفي عام 1841 أطلقت الطبعة الأولى لمجلة Punch  الإنكليزية، وحمل غلافها الأول رسما لشخصية بانش وعفريت صغير. وكان له المعنى المتكامل للرسم الكاريكاتوري، فنرى أن خطوط عنوان المجلة واسمها اتخذ شكل السخرية، ورسم العفريت الصغير مع شخصية المجلة Mr. Punch بالحبر الأسود خرج عن الشكل الكلاسيكي للتصوير.

في العام 1843 نشر في عدد من مجلة Punch رسم كاريكاتوري للرسام John Leech يصور مجموعة من الناس في قصر ويست مينيستر معظمهم من الفقراء والمشردين ينظرون في لوحات تصويرية كلاسيكية معلقة على جدران القصر، وهذا هجاء ونقد في الأسلوب الكلاسيكي للتصوير. وقد يعدّ بعض المؤرخين والنقاد أن هذا الرسم يؤرخ لأول بداية حقيقية لرسم كاريكاتوري ساخر ومتكامل.
على الرغم من التطور الذي بلغه الرسم التصويري باتجاه الكاريكاتور منذ عصور النهضة وحتى أوائل القرن العشرين فان الرسم الكاريكاتوري اتخذ شكله الحالي من نظرة ما بعد الحداثة بعد تطور سريع جدا حدث في الفترة نفسها التي استدعت تطور التصوير. أي أن تطورين قد حدثا في  الفترة نفسها، كان لأحدها صيغة نقل نوعية وبطيئة ومحاربة من قبل الفنانين الكلاسيكيين، والأخرى سريعة لم تؤثر إلا في المضمون ولم يتقبلها المشاهدون بسهولة وهي التي امتدت إلى ما بعد الحداثة.

 ما بعد الحداثة:
هذا التطور الأخير بدأ بشكله الأولي في بدايات القرن التاسع عشر، متزامنا مع التطور الذي أسلفنا ذكره عن تطور الرسم الكاريكاتوري، فاشتهر رسامو بريطانيا مثلا برسوم ذات نقد وهجاء للعائلة الملكية وسخرية من مواقفهم. وفي العام 1805 اختير رسم كاريكاتوري يصور نابليون مع رئيس الوزراء البريطاني Pitt للرسام James Gillray كأفضل رسم كاريكاتوري في بريطانيا.

يحوي الرسم نقطة مهمة في مرحلة ما بعد الحداثة وهي خلق الإشكالية. أي إيجاد توظيف لعنصر ضمن اللوحة يخرج تمام عن الواقع أو المألوف بل ويحلق به في دنيا الخيال، ليعطي المشاهد أولا صدمة التوظيف الغير اعتيادي، ثم يترك له الخيال الكافي ليرى ما يستطيع رؤيته ضمن اللوحة.
في هذه اللوحة تم توظيف الكرة الأرضية على أساس أنها وجبة طعام تتقاسمها الشخصيتان، وهذا كان ثورة بحد ذاتها في ذاك الزمن. ذلك أن المشاهد لم يتعود أن يرى مثل هذا “التطرف” في الرسم من قبل، واللوحة حركت في رأسه أفكاراً جديدة ، فاكتشف ما تحمله اللوحة من معنى ضمني .
في زماننا قد لا نرى هذه اللوحة بكل ذاك الحماس والإعجاب من ناحية الاستعارة التمثيلية للكرة الأرضية فقط دون إهمال القيمة الفنية للوحة. وهذا طبيعي جدا تبعا لتطور ما بعد الحداثة الذي نعيشه. ففكرة الكرة الأرضية  استهلكت ولم تعد تثير  الإعجاب في نفوس المشاهدين.

ولنرتب النقاط الأساسية التي حملت مفهوم ما بعد الحداثة حتى يومنا هذا:
·         خلق الإشكالية في كون الشيء على غير طبيعته، أو توظيف الشيء ضمن اللوحة بأكثر من استخدام متناقض.

·         توضيح التناقض بين طبيعة العناصر وطبيعة توظيفها وعلاقة الانسان بها.
·         الاستعارة التمثيلية لعناصر معروفة بغية وضعها في إسقاطات مباشرة وغير مباشرة.
·         إظهار مشاعر الإنسان على نحو  ساخر أو متعاطف.
·         المبالغة في الألم أو الفرح أو الغضب أو الحزن….
·         كثرة الوضوح أو الغموض.
·         تجريد الأشكال والبساطة في العرض.
·         سرعة إيصال الفكرة أي سهولة الاتصال البصري مع اللوحة.
·         التقنيات المتعددة بما فيها التقنيات الرقمية كالكمبيوتر.
·         الفكرة المركبة وتعدد أوجه تفسير الرسم.
هذه النقاط وغيرها من نقاط وتفاصيل تميز مرحلة ما بعد الحداثة عن مرحلة الحداثة في تطور الرسم التصويري، شكلت في يومنا هذا النتاج النهائي لفن الكاريكاتور على اعتباره فنا مستقلا بمفاهيمه وقواعده عن التصوير.
بقي أن نشير إلى فرع مهم ويعدّ الفرع الأصل في مرحلة ما بعد الحداثة ، وهو الكاريكاتور الصحفي editorial caricature الذي بدأ مع بدايات الصحافة في العالم. ولنأخذ مثلا رسما يهجو رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ابراهام لينكولن للرسام Joseph Baker  عام 1865. استعار الرسام هنا بخيط وإبرة ليخيط بها خط السكة الحديدية على خريطة على الكرة الأرضية. نرى أن الوضوح والاستعارة وخلق الإشكالية تتوفران ضمن هذا الرسم والأهم طبعا هو ما يميزه وهو التعليق والرؤية الصحفية للرسم في ذاك الوقت.
وفي النهاية نستنتج أن وصول الكاريكاتور إلى وضعه الحالي،  مر بثلاث مراحل:

1.تطور فن التصوير.
2.تطور التصوير الى كاريكاتور.
3. تطور الكاريكاتور الى الوضع الحالي.

 *- أسامة السلطي : موقع الكاريكاتور السوري

المصادر:
·    موقع مجلة بانش الإنكليزية www.punch.co.uk
·    كتاب مجموعة رسوم من إصدار Punch   ، ISBN 4-00-335631-4.
·    مكتبة الكونغرس الأمريكي CALL NUMBER: PC/US – 1865.B1675, no. 3
·    موسوعة Wikipedia


Director| Raed Khalil
موقع الكاريكاتور السوري الدولي
رسام الكاريكاتور السوري رائد خليل
| جميع الحقوق محفوظة|

More..
Latest news