الفنان ناجي العلي في الذكرى الثامنة عشرة لرحيله

204

الفنان ناجي العلي في الذكرى الثامنة عشرة لرحيله

ما بين لحظة الاغتيال الغادر في مدينة لندن البريطانية يوم الثاني والعشرين من تموز وساعة الموت شهيداً على طريق تحرير فلسطين كل فلسطين في يوم التاسع والعشرين من شهر آب عام 1987، ثمة حكاية رجل اسمه ناجي العلي عاش يوميات موته مضرجاُ بدمائه الطاهرة.
مُعشباً بحكايات الوطن وعطر الأرض التي أنجبته في بلدته الشجرة بشمال فلسطين المحتلة عام 1936، وبريشته العامرة بكل المواقف والتفاصيل اليومية للشعوب العربية المقهورة والمقيدة بسلاسل العملاء والخونة من بعض أبناء الأمة العربية المُحاطة بجميع أطياف الاستعمار والإمبريالية وآليات العدوان الصهيوني البغيض.

الشهيد ناجي العلي يُمثل نموذجاً فريداً، غير مسبوق للمقاوم العربي الصلب الذي آثر الشهادة قدراً لا بدّ منه ومُعادلاً موضوعياً لمسيرة حياة، وقضية عادلة آمن بها وعاش من أجلها منذ مُغادرته رحاب الوطن الفلسطيني في نكبة فلسطين عام 1948. وبروز نجمه كرسام كاريكاتير بعد لقاء ودي جمعه بالشهيد غسان كنفاني في أمسيات مخيم عين الحلوة بصيدا لبنان التي كانت فتحاً مشهوداً لتحقيق مساحة حلمه المُقاوم عبر الفن التشكيلي والكاريكاتيري، ولاسيما بعد أن نشرها كنفاني في مجلة (الحرية) الناطقة باسم حركة القوميين العرب في بيروت، من أنها نقطة البداية لسيل العطاء والرسم والعبور في مجاهل الموت المحتوم شهيداً في حرب الوجود. جند حياته ومواهبه ومعابر مُخيلته وأفكاره خدمة لقضايا الإنسان وعدالة قضيته الفلسطينية وحقه المشروع في التحرير والعودة إلى أراضي الأجداد، وصوتاً مدوياً في عوالم كشف الحقائق وفضح المسكوت عنه سواء أكان من أفراد وحكومات ومنظمات وقادة محليين وقوميين وعالميين.

سلاحه الفاعل في هذا الاتجاه ذاكرة وقلم وريشة وأحبار سوداء وبضعة أوراق بيضاء يخط عليها مُجونه المشروع في توصيف قضية الصراع العربي الصهيوني من بوابات الوطن العربي الكبير والخريطة الكونية التي عجت بحركات التحرر الوطني المناهضة للاستعمار الغربي الحديث بجميع أشكاله القمعية، مُسانداً فاعلاً لجميع القضايا النضالية. عيونه ويده ومسارات تفكيره مفتوحة على حق الإنسان في المقاومة والوجود والتحرر السياسي والاجتماعي والعيش الحر الكريم على كامل ترابه الوطني. خطت ريشته الأنيقة تفاصيل الحلم والألم، دخل أسوار الخطر عابراً حقول ألغام الطغاة والعملاء بجرأة متناهية. مُختزلاً المسائل الشائكة والمعقدة والعصية على الفهم، يُحيلها إلى حقائق واضحة المعالم مكشوفة مفهومة من قبل القاصي والداني، المُثقف التقني وحتى الإنسان العابر العفوي. عناوينه شخوصه ومسالك رموز متنوعة الخصائص والأحاجي مأخوذة من توليفة ذاكرة شعبية فلسطينية هنا ومقولة ثورية هناك. مفتاح موهبته محمول بفلسطين الرمز والمعنى والقضية بعدّها الاسم الحركي لجميع المقاومين، تسكنه ويسكنها خطوطاً ومساحات لونية أسود صريحاً على نصاعة الأبيض غير مبالية بالرماديات، يأخذ من خلالها زمام المبادرة على الدوام في كشف المظالم وفضح المؤامرات السرية والعلنية في المؤتمرات الدولية ودهاليز السياسة والعسكر. يُصرح علانية بأسماء العملاء والخونة بلا تحفظ ولا مواربة. يقول نصوصه البصرية وكلمته الفصل متوجهاً نحو غايته بلا خوف ولا وجل، مما جعله محط أنظار القتلة والعملاء وجبهة الأعداء الداخليين والخارجيين وإدراجهم اسمه وفنه في عداد المطلوبين، ولتتوحد عليه قوى البغي العربية والعالمية مجتمعة جبهة حاقدة من قوى صهيونية وإمبريالية وحكومات ومنظمات وأجهزة عميلة وتابعة مرهونة بانتظار لحظة الحسم والتخلص منه عِبر قاتل مأجور في شوارع عاصمة المؤامرات التاريخية لندن خاتماً بذلك صفحة من صفحات المقاومة الفاعلة على جبهة الثقافة. ولتبقى رسومه وآثاره شعلة مضيئة دائمة التوهج ومرجعية بصرية وكفاحية لا بدّ منها لجميع المثقفين ورسامي الكاريكاتير في الوطن العربي والمجرة الدولية وقابلة للدراسة والبحث.

تعامل الشهيد ناجي العلي مع مساحة أفكاره ومناطق البوح التقني بأساليب مُغايرة، جعلت منه حالة متفردة في هذا السياق. تقوم رسومه على مفاعيل الكلام المرافق لواحة الرسم وربط حاذق للمقولات الشعبية الفلسطينية مع حقيقة ما جرى ويجري، أي تقصد الجمع ما بين الكتابة والرسم وتشخيص الفكرة التعبيرية المنشودة، ثم انتقاله الطبيعي لمساحة التبسيط واختزال الكلام المسرود والمرافق لمضامين الرسوم والاكتفاء باستحضار رموز ودلالات من وحي الفكرة المطروقة التي كانت أشبه برسوم خيال الظل متناسلة من رحاب الكوميديا السوداء التي تحتاج من المتلقي السليقة البصرية لفهم المحتوى والمعنى المقصود. مواضيعه تنوعت بتنوع مسارات الحياة العامة في السياسة والاقتصاد والقمع والسجون ومفاعيل المجتمع والمقاومة وحق الشعوب والأفراد بمقاتلة المعتدي المستعمر والمتعامل الطبقي والوطني وخوض غمار حرب ضروس مع جبهة الأعداء، تجد في طياتها مساحة واسعة لجميع طقوس العهر العربي الرسمي وشبه الرسمي بدءاً بمنابع النفط وتجاره والاقتصاد ومُحتكريه والحروب ومرتزقتها الموزعين في قارات الأرض الخمسة. شكلت رسومه منشورات فصل الخطاب العربي لمواقف ثورية جذرية لا تحتمل الوسطية والتنازل والاستسلام وهي أشبه بمنارات قول ودليل عمل للمثقفين الثوريين. من أجل رسومه الموقف كانت نهايته الدرامية جريمة بحق الإنسانية قُيدت كما هي الجرائم السياسية ضد مجهول.

بقلم: عبد الله أبو راشد
عن: النور- العدد 209 (3/8/2005)

 
 
 


Director| Raed Khalil
موقع الكاريكاتور السوري الدولي
رسام الكاريكاتور السوري رائد خليل
| جميع الحقوق محفوظة|

 



More..
Latest news