النكتة والكاريكاتير.. تكامل السمعي والبصري
النكتة والكاريكاتير.. تكامل السمعي والبصري
يتساءل أحدنا وهو يتابع ما تطالعنا به الصحف والمجلات من نكات ورسوم كاريكاتورية أو وهو يستمع إلى نكتة رائعة من خلال الراديو أو متابعة مادة تلفزيونية حول الكاريكاتور “
هل أصبحت النكتة والكاريكاتور جزءاً من ثقافتنا الشعبية أم مجرد فشة خلق؟” سيما وأنهما يتناولان الرجل والمرأة، الفقير والغني، المواطن العادي والمسؤول من مختلف جوانب الخطأ.
إن النكتة والكاريكاتور وفق المفهوم الاجتماعي يشكلان أدوات غير مباشرة لنقد واقع سيء نعيشه وإدانة غيابية لأشخاص يقفون وراء هذا السوء، يعكسان مواقع الخلل والفساد من خلال السخرية وإثارة الضحك في أغلب الحالات، ويلجأ إليهما الناس للإفصاح عما يدور بدواخلهم والتعبير عن آرائهم مواربة. وفضاء النكتة والكاريكاتور واسع ومتنوع، فهما يولدان في البيوت العادية والقصور الفخمة، في الشوارع ومواقع العمل، في المجالس العامة والخاصة، وهما مرآة للواقع لا تجمّل ولا تجامل، ينتشران ويتلونان بلون الرواة والناقلين والمشاهدين ومقاصدهم ومآربهم، الجميع يستمعون إليهم وينظرون، يضحكون ويهزأون..
وراوي النكات ورسام الكاريكاتور لا يختلفان عن الناقد الاجتماعي أو السياسي وغيرهما، إلا أن جمالية النكتة والكاريكاتور تكمن في المسحة الساحرة لجروحنا اليومية، تتحسسها دون أن تتسبب في إيلامنا مباشرة، بساطة في الأداء وبراعة في الايحاء.
وإذا كان الكاريكاتور في أحد تعريفاته هو فن الإضحاك فإن أحد أهداف النكتة هو إضحاك السامع بغض النظر عن مغزاها وردود الفعل عليها، وكلاهما لا يوافقان على الواقع المعاش، بل يرغبان بتغيره بطريقة خاصة تاركين مساحة للحوار العقلي من خلال المواجهة السمعية والبصرية.
إن النكتة مظهر من مظاهر التمتع بالحياة ودليل ذكاء وسرعة بديهة وصفاء ذهن الراوي وقدرته على نقل الطرائف بطريقة لاذعة غير جارحة، وناقدة غير متعمدة، وساخرة غير مثيرة للغضب. وهي لا تُقال للإضحاك فقط وإنما للتلميح إلى مكبوتات لا يستطيع الفرد الإفصاح عنها بشكل مباشر، كما أنها تختلف في قيمتها الاجتماعية ودلالتها الحياتية. فهناك نكات تكتفي بإثارة ضحك السامعين وأخرى تنطوي على نقد بليغ وذات مغزى عميق، عنوانها مضحك ومضمونها مُهلك.
والنكتة وفق تعريفها الاجتماعي هي إدانة غير مباشرة لواقع مؤلم تسلط الضوء عليه لكي تكشف حقيقته وأبعاده. إنها حصيلة معقدة وذكية لموقف ضعف اجتماعي يعجز عن الإفصاح عن نفسه مخافة إلحاق الأذى به من الجهة المدانة. ومن هنا يمكن اعتبار التنكيت جزءاً من الثقافة الشعبية، ثقافة الطرف الأضعف الذي لا يملك القدرة على المواجهة. لذلك نجد أن النكتة تزداد في المجتمعات الفقيرة حيث البطالة والجهل، أو في المجتمعات المأزومة، حيث تكشف الأزمات عيوب المجتمع وانقساماته، أو في المجتمعات المقموعة، حيث تضيق مساحة التعبير عن الرأي أو تكاد تنعدم فيلجأ الناس إلى التنكيت كطريقة مواربة لتمرير آرائهم والتنفيس عن كبتهم، وقد يتداولون النكتة المولودة في الخارج للتدليل على مسائل داخلية ومحلية.
يجمع الباحثون على أن هموم الناس ومعاناتهم هي عوامل مشجعة للجوء إلى تبادل النكات وذلك من أجل تمرير الوقت والتخفيف من الضيق، إضافة إلى التعبير عن الاستياء والرفض لواقع معين. فالنكتة تنطلق من صميم الواقع وهي كظاهرة اجتماعية تعبير عن الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي، تتيح لنا التعبير عن قضايا نعيشها أو مشاكل نعاني منها ولا نستطيع تناولها بشكل صريح لأسباب كثيرة ومختلفة. ولعل ظاهرة التنكيت إشارة إيجابية ودليل صحة اجتماعية حيث يحاول البشر من خلال تداول النكات إعادة صياغة الأحداث على طريقتهم وتحويلها من فعل سلبي إلى رد فعل إيجابي.
وتختلف النكات من جماعة لأخرى، فهناك جماعة تفضل النكات التي تشمل اللعب على الألفاظ، وأخرى تفضل النكات ذات الطابع الذهني. جماعة تفضل النكات بأبطال مجانين، وأخرى تفضل الشخصيات الهامة والمسؤولين. ومن حيث ردود الفعل نجد أن نكتة واحدة تثير الابتسام لدى شخص والقهقهة لدى آخر وضحكة صفراء لدى ثالث، شخص يغضب ويتبرم وآخر يستقبلها بروح عالية. وهناك نكات ترتبط بمنطقة جغرافية محددة أو بفئة اجتماعية معينة لكنها تنسحب على كل المناطق والفئات حسب تبدل الزمان والمكان وتجدد رواتها وروايتها. وهناك نكات تتناول أشخاصاً بعينهم ولا يملكون الدفاع عن أنفسهم تجاهها ولا يستطيعون معاقبة مبتدعها لأنه مجهول، ولا رواتها لأنها تنتشر كالنار في الهشيم بحيث يصعب حصرهم بسبب تعدد المجالس التي تضمهم وتنوع الأحاديث التي تدور فيها واختلاف التناقل والتأويل. ويمكن التمييز بين عدة ألوان للنكتة. فالبيضاء لطيفة بريئة، والسوداء مأساوية، والصفراء لئيمة متشفيّة، والحمراء مؤذية. ويلعب الراوي دوراً كبيراً في إيصال النكتة ومغزاها فما كل من روى أمتع ولا كل من نقل أقنع.
وإذا كانت النكتة تعتمد على التفاعل السمعي في مقاربة الحقائق وكشفها فإن الكاريكاتور يعتمد على التفاعل البصري ويقوم بلغة فنية سريعة وبسيطة على الدمج بين الفكرة الجادة العميقة والشكل الفني الحامل لأدوات التعبير عنها. وهذا الدمج يثير مشاعر الناظر ويسهم في تحريضه ضد الواقع السلبي الذي يعيشه ويدفعه إلى مراجعة أفكاره والبحث عن البدائل.
إن للكاريكاتور تأثير كبير على مختلف شرائح المجتمع ويلعب دوراً في الأوساط الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، حيث يقوم على اختزال الواقع في لوحات ورسوم تبدو بسيطة وجزئية في طرحها لكنها تنطوي على مدلولات عميقة ونقد جريء للواقع، ويخاطبنا بلغة بصرية واضحة تلخص هذا الواقع وتؤثر على مداركنا ورؤيتنا للأحداث. فرسم الكاريكاتور هو نبض الحياة وتفاعل حقيقي مع الناس لأنه تعبير صريح عن أحاسيسهم ومشاعرهم التي لا يحسنون ترجمتها بالكلام أحياناً، وقد لا يستطيعون التعبير عنها أحياناً أخرى فتقوم العين بنقل هذا المعروض البصري وتحويله إلى مخزون حسي بمفهوم فكري عميق الدلالة.
كان الكاريكاتور في بداياته يحارب القهر بسلاح السخرية والتشهير، إلا أنه تحول من فن لإثارة السخرية إلى فن لرصد الألم. فالواقع الذي أصبح أكثر سخرية من التعبير عنه بالسخرية جعل رسام الكاريكاتور يقف في مواجهة التحديات اليومية وتسليط الضوء على مواقع الخلل ومظاهر التخريب التي تجتاح المجتمع بالإضافة إلى القضايا العالمية المصيرية.
ويعد فن الكاريكاتور من أكثر الطرق التعبيرية قدرة على استخراج العديد من أشكال الديمقراطية من أدراج الرقابة التي تفرضها مؤسسات أي نظام من أنظمة العالم، وبالمقابل يمتلك قوة الرقابة الشعبية والقدرة على ملامسة الجوهر، فهو أقرب إلى ضمير الإنسان العامي وهواجسه وهمومه. فمهمته ليست النقد خارج هموم الحياة بل له القدرة على إيقاظ المخيلات الذهنية والبصرية وفضح الواقع بإشارات ذكية تخرج من الصورة وتلامس ذهن المشاهد وإحساسه وتؤسس لكثير من القناعات لديه وتسعى إلى تشكيل وعي إيجابي لديه تجاه همومه وهموم الناس عامة كالفساد والرشوة والمحسوبيات وانعدام المساواة.
إن ما يُرسم في اللوحات الكاريكاتورية أو يتم تداوله كنكتة موجود بالأصل في حياة الناس أو مستمد من البيئة المحيطة، والإنسان بطبعه ميال إلى الفكاهة وروح الدعابة. لذلك نرى أن معالجة قضايا المجتمع على اختلافها عن طريق الرسوم الساخرة التي لا تخلو من نكتة تلاقي شعبية كبيرة سواء في العالم المتقدم أو النامي، خاصة وأنها لغة مفهومة للجميع، حتى لغير المتعلمين.
وتبدو الرسوم الكاريكاتورية والنكات في بعض الأحيان من البديهيات إلا أنها تحمل دلالاتها الرمزية المبنية على الأساليب الفكاهية القادرة على تأسيس قناعات معينة، وهي طبعاً غير قادرة على تغيير واقع فاسد أو الإطاحة بتقليد سائد ولكنها تمتلك مفعولاً تحريضياً يدفعنا إلى المشاركة في التفكير بقضايانا ومشاكلنا وتبنيها والعمل على إيجاد الحلول لها.
وائل ديوب
2/6/2009م
جريدة الثورة السورية – الملحق الثقافي
Director| Raed Khalil
موقع الكاريكاتور السوري الدولي
رسام الكاريكاتور السوري رائد خليل
| جميع الحقوق محفوظة|