حوارية سردية في الذكرى الحادية والعشرين لاستشهاد الفنان الفلسطيني ناجي العلي

112

حوارية سردية في الذكرى الحادية والعشرين
لاستشهاد الفنان الفلسطيني ناجي العلي

لم تُخطئ فراسة الفنان الشهيد ناجي العلي رسام الكاريكاتير الفلسطيني، التي رسمت أبجدية الصراع العربي الصهيوني وحقيقة مفاعيله، بوضوح الحبر الأسود على بياض الورق، فاضحة خلفيات الدول والشعوب والأحزاب والأفراد الذين دخلوا في معامل اختباره، باعتباره موئلاً جامعاً وذاكرة بصرية واسعة الطيف تلمّ بجميع مكونات هذا الصراع ومراحله، وتدخل مفاصله الخطرة عابرة في مضامينها ومعانيها الخطوط الحمراء الممنوعة التي كلفته حياته في سردية موت واستشهاد درامي في مدينة الضباب والتآمر الدولي (لندن) في 29 آب 1987، كدليل مادي على مصداقية مواقفه ودوره الوظيفي فناناً وإنساناً مُقاوماً على جبهة الثقافة والفن، ومُعبراً عن مناطق تفكيره ومصداقية مواقفه وأنماط حياته.

إن اللوحة الترسيمية الخطية (الكاريكاتورية)هي سلاحه الأوحد الذي وجد فيه قتالاً فريداً ونوعاً فاعلاً من السلاح. سلاح قادر على صنع أفعال تفوق صمت الكلام والمدافع في لحظة مصيرية فاصلة من حياتنا العربية، نحن المدافعين الفاشلين عن القضية. خاضها ناجي العلي باقتدار تقني وفكري، وبساطة تأليف وتوليف ولغة سرد عفوية، لغة سهلة تُكرس أبجدية جديدة في عوالم الصمت والقتل والانحياز للآخر الصهيوني، والمدعمة بكل وسائل إفناء الشعب العربي الفلسطيني المتاحة من تكنولوجيا الدمار الأمريكي الأوربي الغربي بجميع لغاته وانتماءاته وأيديولوجياته. رسوم تختزن همومنا وذاكرتنا الشعبية المثخنة بالجراحات والمجازر وعبر الكلام والمواقف، وهي بطبيعة الحال ليست نوعًا من الترف الفكري أو دعابة لتسلية عيون المتلقين ولا تزيناً أنيقاً لرغبة حاذقة لمجلة أو صحيفة.

إنما هي منشور سياسي بكل تفاصيله أشبه بـ(مانفيستو) كفاحي أممي قدمه لكل الناس من عرب وأعاجم. لجميع الفئات والأديان والانتماءات الحزبية والأيديولوجية، المتعلمين والمثقفين (النخب) منهم، والواقفين على أعتاب الحكام، أو في معابر صناعة الثقافة ومعركة الوجود. أو الفقراء المحرومين المتمسكين بالعروة الوثقى، المعتصمين بحبل الأمل غير المتفرقين، المقاومين على الدوام لكل آلات الدمار الأمريكية والغربية بصدورهم العارية، وتوق للجهاد والاستشهاد وبأيديهم حفنة من حجارة الوطن.

رسومه أشبه ببيان ثورة ضد أعداء الأمة العربية ومقدساتها المسيحية والإسلامية العربية والفلسطينية خصوصاً، ولكل من تسول له نفسه المساس بالقضية الفلسطينية باعتبارها قضية مركزية للأمة العربية تتجاوز في نهجها وتفاعلاتها حدود الجغرافية المصطنعة التي أوجدها الاستعمار الأوربي الغربي، وحلقاته المتصلة عبر الكيان الصهيوني وراعيته المعاصرة الولايات المتحدة الأمريكية.

رسومه كتاب مفتوح على القراءة، وهو سِفر خطي بالأسود بالأبيض لا مكان للرمادي فيه، وهو بذلك يوحي إلينا أن لا حلول وسطاً ما بين أن نكون أو لا نكون. ما بين الحياة والموت دفاعاً عن حياض الوطن. والوطن لديه ليس فلسطين بحدودها الجغرافية وحسب. إنما هو: (الاسم السري لكل الوطن العربي من محيطه إلى خليجه) وبما يحمل في طياته من شجون آلامه، المُختلطة بآماله ومعاركه التي يخوضها بما سموه اصطلاحاً الصراع العربي الصهيوني.

هاجسه المواطن العربي والوطن بكل تفاصيله الجمالية وعواصمه الثكلى التي تأخذ منه كل مأخذ. رسومه رصاصات واضحة البيان في أزمنة الصمت العربية والإسلامية، مصوبة هدفها الواضح نحو أعداء الأمة العربية الداخليين والخارجيين، يصوغها في تصويرية بصرية مفتوحة على الذاكرة، ومفتحة للعقول والقلوب، ليس فيها محاباة أوخوف من أحد. فيها الحقيقة العارية المفهومة والواضحة التي يفهمها الصغير والكبير من كل الفئات والطبقات حكاماً وشعوباً. ومدينة القدس العربية في ثوبها الإسلامي القشيب، تحتل مساحة من ذاكرته وريشته ولمَ لا فهي أولى القبلتين وثالث الحرمين، مدينة جريحة مسفوحة دماؤها على مقاصل العدو الصهيوني الغربي والأمريكي.

كان الشهيد ناجي العلي في ذاته الاستشهادية ورسومه، انعكاساً مثيراً لواقع مليء بدروب الآلام الفلسطينية العربية والذكريات والأحداث الجسام، وعنواناً يومياً لسردية قصص البطولة التي قدمتها قوافل الشهداء. يُقرأ من خلال خطوطه وملوناته المرفقة التوضيحية عناوين لطقوس درامية فيها اختصار مجازي لكتب ومقولات، ومواقف عبثية للمتاجرين بالقضية الفلسطينية والدماء. لا يُهادن أحداً، يعرف ما يُريد ولا يقبل الوقوف على أطلال الخراب متفرجاً. يصف المأساة بفهمه النضالي وتبصره لمآل واقعه وحكامه بتهكمية لاذعة، يُذكرنا بالمآثر التاريخية والمقولات الشعبية، يدخلنا عنوة في مقولة (شرّ البلية ما يُضحك)، لكنه ضحكٌ من نوع آخر، ضحك يختزل حياتنا في جمل أحياناً، وفي خطوط وملونات سوداء فوق صريح الأبيض في أكثر الأحوال. الهم العربي هاجسه مُجسداً بتفاعلات الصراع العربي الصهيوني، في كشف دقيق للأكاذيب والمواقف الزائفة والتشدق اللفظي والممارسات الخاطئة، وخفايا النفوس والرؤوس، باعتبارها مجاله الحيوي في رسومه. لا يجد نفسه بعيدًا عنها. يدخل محراب الحدث مقاتلاً شرساً بأسلحته القتالية الفاعلة، فكرة وخطوطاً وملونات سوداء تصدح بالحقيقة الواضحة التي لا تحتاج إلى تـأويل وتسويف. يقول ما يصعب قوله لدى الآخرين. ينشر أسراره وكتبه وأسفاره، يُبشر بالأمل في لحظات اليأس المطبق.
العواصم العربية موطنه، والشعوب العربية المقهورة أهله وذووه، لا يخضع لمقاييس قسرية ودبلوماسية، ولا تقف الحدود الكرتونية التي أوجدها الاستعمار في (سايكس- بيكو) عائقاً في وجهه وانتشاره. تراه في كل الأوطان العربية جزءاً لا يتجزأ من شعوبها، منحازاً كلياً للفقراء والكادحين وللرجال الأوفياء. لا تغريه الأتاوات ولا المناصب وظلم ذوي القربى، مُجاهداً واستشهادياً مميزاً في طقوس مميزة أيضاً. عناوينه دائمة التوهج في كل مكان. كانت بيروت موطئ قدمه وساحة انتشاره، والقدس وفلسطين جهاداً لا ينتهي في حدود دمه المسفوح غِيلة في أزقة مدينة الخراب العدواني (لندن).

دمه ما زال يانعاً في أحفاده، ورسومه ماثلة في مساحة الذاكرة البصرية والمعرفية لأجيال فلسطينية تعلمت دروس المقاومة من خلال هذه الرسوم. وتتلمذت على يديه وبياناته القتالية. كان وما زال تذكرة العبور المعلن لجراحاتنا العربية واسماً حركياً متنوع المسميات والأمكنة في أيامنا وليالينا العربية الكالحة والمظلمة. يصيب منّا القلوب والعقول ويُعمل سلاحه المتواضع خطاً ولوناً متساوقاً مع سلاح الحجر في الضفة الفلسطينية الأُخرى، كيف لا وهو الناطق الرسمي الدائم باسم انتفاضة أهلنا في الأرض المحتلة منذ 1976 حتى لحظة استشهاده.

عبد الله أبو راشد
جريدة النور – العدد 356
8/9/2008


Director| Raed Khalil
موقع الكاريكاتور السوري الدولي
رسام الكاريكاتور السوري رائد خليل
| جميع الحقوق محفوظة|

 



More..
Latest news